الإرهاق الرقمي- هل عقولنا مستعدة لعلاقات السوشيال ميديا المتضخمة؟

المؤلف: د. هشام المكي09.22.2025
الإرهاق الرقمي- هل عقولنا مستعدة لعلاقات السوشيال ميديا المتضخمة؟

هل نمتلك الاستعداد النفسي والعقلي اللازم للسيطرة على سيل التنبيهات والرسائل المتدفقة من تطبيقات التواصل الاجتماعي المتنوعة التي تغمرنا باستمرار؟ ما التأثير العميق الذي تحدثه هذه التنبيهات في عقولنا؟

وهل أنت ممن تثقلهم أعباء الرد على الكم الهائل من رسائل الواتساب المخصصة لتهنئة "جمعة مباركة" التي تنهال علينا كل أسبوع؟

قبل الخوض في تفاصيل هذه المعضلة، دعني أعود بك إلى نقطة البداية:

كان الوقت صباحًا مشرقًا، وشمس الشتاء الدافئة تخفف بلطف من قسوة البرد، وفجأة اخترق هذا الهدوء صوت تنبيه الهاتف، معلنًا عن وصول رسالة واتساب من صديق يعاتبني على عدم الرد على رسالة سابقة ظلت حبيسة هاتفي لمدة خمسة أيام كاملة.. شعرت بوطأة الخجل، ورغبت في الاعتذار منه وتطييب خاطره، فبدأت في البحث عن مبرر معقول.

لاحظت أن عدد رسائل الواتساب المنتظرة في هاتفي دون رد قد تجاوز الستمائة رسالة، فسارعت بتسجيل فيديو للشاشة، وأرسلته إليه مع اعتذار رقيق، ثم اتصلت به مباشرة وأخبرته أنني لم أنتبه لرسالته بسبب التدفق الهائل للرسائل التي أتلقاها يوميًا، وشددت على إيصال فكرة جوهرية وبسيطة: لماذا لم تتصل بي هاتفيًا لحسم الأمر بمكالمة واحدة بدلًا من رسالة قد تظل معلقة دون رد؟!

تكومت في هاتفي ستمائة رسالة واتساب، بالإضافة إلى أكثر من ثمانية آلاف ومائتي صديق ومتابع على فيسبوك.. لا أعرف منهم إلا قلة قليلة بشكل شخصي، وأجهل معظمهم.. فهل أنا حقًا مؤهل لإدارة هذه "العلاقات الاجتماعية الرقمية" المعقدة؟

إن جوهر بناء الصداقات الرقمية يكمن في الاعتقاد بأن الأفراد قادرون على إقامة روابط اجتماعية رقمية متينة مع أشخاص "يشبهونهم" ويتفقون معهم في الميول والاتجاهات؛ ولكن هل لهذه الظاهرة أي تأثير على العلاقات الاجتماعية الواقعية الملموسة؟

صحيح أن تكنولوجيا الاتصالات قد قدمت "مساعدة تقنية" قيمة لتعزيز الصداقات الرقمية القائمة من خلال تسهيل التواصل وتدعيم الروابط العاطفية؛ إلا أنها في المقابل، رفعت سقف التوقعات العلائقية بشكل كبير، بحيث أصبح الأفراد أكثر تطلبًا، ويتجاوزون الهويات الأصلية الموروثة: (العائلة، المجتمع، الدين، الثقافة)، وينخرطون في هويات فرعية أكثر تركيزًا على القواسم المشتركة والتماثل.

بفضل شبكات التواصل الاجتماعي، أصبح من اليسير البحث عن أفراد يشاركوننا نفس الاهتمامات والأذواق والآراء، والاندماج معهم بسهولة أكبر من الجيران أو الأقارب أو زملاء العمل أو "أبناء البلد" أو "المسلمين" أو غيرهم ممن يشاطروننا الانتماء ولكنهم قد يختلفون معنا في الرأي أو الميول؛ إن العلاقات الرقمية جذابة ومغرية؛ فهي ممتعة بما تتيحه من ترفيه وتسالي متنوعة، ومريحة بما تقدمه من عضوية مجانية لا تفرض أية أعباء اجتماعية أو التزامات أخلاقية، ودافئة بما تقوم عليه من أرضية مشتركة واسعة بين أعضائها.

في المقابل، فإن دوائر الانتماء الاجتماعي الفعلي مرهقة؛ إذ يتوجب عليك إثبات ولائك من حين لآخر عبر سلوكيات وأفعال مادية ومعنوية ملموسة؛ فتجد نفسك مضطرًا لتقديم المساعدة، والتنقل لحضور المناسبات السعيدة أو الحزينة، وتقديم التهاني أو التعازي، وإقراض المال لمعارف قد يماطلون في السداد، وتحمل أقرباء مزعجين لا تودهم فرضتهم القرابة عليك.. إن ظاهر العلاقات الاجتماعية الفعلية هو التعب المستمر والالتزام الدائم لإثبات الانتماء؛ وذلك على النقيض من متعة العلاقات الرقمية التي لا تفرض أية التزامات.. فأي المسارين سيختار المرء؟!

وبالنظر إلى ما يسمى بالصداقات الفيسبوكية على سبيل المثال، فإن وعود تكنولوجيا الاتصال تبدو مغرية للغاية، حيث تدعي أنها تمكنك من الارتباط بعدد هائل من الأصدقاء قد يصل إلى خمسة آلاف، (بالإضافة إلى عدد لا محدود من المتابعين)، وهو ما يعلق عليه زيغمونت باومان قائلًا: "فهل الأسماء والصور التي يطلق عليها مستخدمو الفيسبوك لقب "أصدقاء" هي قريبة أم بعيدة؟ إن أحد المستخدمين النشطين المخلصين للفيسبوك يتباهى بقدرته على ضم خمسمائة صديق جديد في يوم واحد، وهذا يفوق ما استطعت أنا تحقيقه طيلة حياتي منذ ولدت في عام 1925".

إن قدرات العقل البشري على إدارة العلاقات الاجتماعية محدودة للغاية، وهذا يدحض هذه الادعاءات التسويقية المضللة التي تستغل تجاريًا قيمًا إنسانية نبيلة كالصداقة؛ فالبروفيسور روبين دنبار من جامعة أكسفورد، قد توصل إلى أن عقولنا لا تستوعب سوى عدد محدود من الأشخاص في العلاقات الاجتماعية، وحصرها في مائة وخمسين علاقة اجتماعية مستقرة، وقد اشتهر هذا العدد تحت اسم رقم دنبار؛ ورغم وجود دراسات أخرى قد ضاعفت هذا العدد، حيث توصل فريق بحثي أمريكي إلى أن الفرد قادر على إقامة مئتين وتسعين علاقة اجتماعية مستقرة، إلا أن ذلك يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن قدراتنا العقلية والنفسية على إقامة علاقات اجتماعية حقيقية وإدارتها هي محدودة جدًا.

لذلك فإن الصداقات الفيسبوكية، أو العلاقات الاجتماعية الرقمية بشكل عام، هي مرهقة لنا عقليًا ونفسيًا؛ لأنها تتجاوز قدراتنا الإدراكية المحدودة، وهي ضارة اجتماعيًا، لأنها تضعف الروابط الاجتماعية الحقيقية القائمة على التفاعل المباشر.

وهناك جانب آخر من الإرهاق يتمثل فيما يفرضه علينا تطبيق "واتساب" مثلًا من قواعد استخدام غير معلنة لا يعرف أحد مصدرها!

فأنا شخصيًا، عضو في أكثر من عشر مجموعات واتساب، بالإضافة إلى الأصدقاء الذين تصلني منهم رسائل متنوعة، وتخيل معي لو أن كل واحد منهم أرسل إليّ فقط عبارة "جمعة مباركة"، فسأتلقى حينها مئات الرسائل، لذلك فإن صباحات الجمعة تكون بالنسبة لي مرهقة للغاية وأنا أرد على عشرات التهاني التي تسعدني بقدر ما تستنزف طاقتي.. أما في غير صباح الجمعة، فإن كل صديق يتعامل معي على أساس أنه الشخص الوحيد الذي يراسلني على الواتساب، وأنني ملزم بقراءة رسالته والرد عليه بشكل فوري.

وللواتساب تأثير نفسي آخر مدمر؛ إذ طمس الحدود الفاصلة بين الحياة الشخصية والحياة المهنية؛ لأنه يشجع المديرين وزملاء العمل على التواصل معك في أي وقت حتى بعد انتهاء ساعات العمل الرسمية، وهذا يجبر عقلك على الانشغال بأمور العمل حتى وأنت محاط بأفراد أسرتك، ومع كل هذا الإرهاق، فإنني أعتبر نفسي محظوظًا؛ لأنني نجحت حتى الآن في مقاومة إغراءات فتح حسابات على منصات تواصل أخرى لا تقل إغراءً، مثل إنستغرام وتيليغرام وغيرها.

تخيل أن شركة دوبامين لابز قد ابتكرت منذ عام 2017 شفرة خاصة بشركات تطبيقات الهاتف الذكي تهدف إلى اختراق الدماغ، وغرضها الأساسي هو إطالة مدة استخدام الأشخاص لتطبيق معين من خلال تحديد اللحظة المثالية التي يجب على التطبيق القيام فيها بشيء ما يجعلك تشعر بسعادة غامرة.. فمثلًا، يمتلك تطبيق إنستغرام شفرة برمجية ذكية تجعله يتعمد الانتظار لفترة من الوقت قبل أن يعرض عليك "إعجابات" المستخدمين الآخرين، ثم يرسل لك دفعة الإعجابات في اللحظة الأكثر تأثيرًا بالنسبة لك، وهي اللحظة التي تمنعك من الخروج من التطبيق وتجعلك تستمر في استخدامه.. هذه الخوارزمية مصممة خصيصًا لكل مستخدم على حدة، وتتنبأ بالوقت المثالي لجعله "يتذوق" جرعة من التفاعل!

وأنا أكتب هذا المقال، اضطررت إلى مقاطعة تدفق الأفكار من أجل التفاعل مع ثلاث محادثات مختلفة على واتساب من عوالم متباينة: اجتماعية وعائلية ومهنية، لذا فإنه من المرهق جدًا نفسيًا وعقليًا إدارة هذا الكم الهائل من العلاقات الاجتماعية الرقمية بشكل يومي.

انتبهوا جيدًا، فهناك قواعد اجتماعية مستحدثة تتشكل في غفلة منا؛ فعلى سبيل المثال، عاتبتني خالتي المسنة مؤخرًا، ليس لأنني لا أزورها، بل لأنني لا أرد بشكل فوري على رسائلها الصوتية المفعمة بدعوات الخير!

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة